في تلك المرحلة التي يطلق عليها المراهقة يقول الأخصائيين التربويين وكذلك النفسانيين ان هذه المرحلة تشكل منعطفا رئيسيا لتشكيل شخصية الفتى او الفتاه كما ان هذه المرحلة تتميز ايضا بالتطرف الشديد في الافكار والسلوك ...
اتذكر وانا في السنة الأولى من المرحلة الثانوية كان لدينا مدرس لأحدى المواد الدينية واتذكر انه في يوم ما وقف فينا هذا المدرس خطيبا في الفصل وهو يحثنا على الثبات في وجه الكافرين ويحذرنا من احتمال ان نتعرض لعدوان منهم وطالبنا ان نتعامل معهم في حياتنا عندما نلتقيهم بالغلظة والجلافة وان لا تكون الرحمة سوى على المسلمين ...
اتذكر وان في تلك المرحلة العمرية التي لم تتجاوز الخمسة عشر عاما كيف كانت لهذه الكلمات أثرها الكبير في نفسي وكيف انتشيت فرحا انه سيكون لي وسيلة لكي أظهر عدائي لأعداء الله وكيف ان لدي استاذ قادر على حثنا بهذه الأعمال البطولية !!! وهو لا يخشى رقيب او حسيب ... وكيف اعتبرت هذه التصريحات سري المقدس علما انه كان يخاطب مالا يقل عن اربعين طالبا معي بالصف !!!
اتذكر في تلك المرحلة العمرية انني كنت اعشق كل ما يمت للعروبة او الاسلام بصلة وكنت اعشق كل من يدعو صراحة لمحاربة اليهود والنصارى سواء كان هنالك سبب او من غير سبب فيكفي ان تكون كافرا حتى يحق لي مقاتلتك !!! لذلك فأن تصريحات ذلك المدرس وافقت بشكل كبير هوى في نفسي وبالتالي هي لم تضف لي المزيد بقدر ما منحتني ثقة في افكاري وان هنالك رجال بالغون يتبنون افكاري وانا الطفل الغرير ...
عاشت تلك التصريحات في عقلي الباطني سنوات عدة واتذكر في احدى المناسبات وانا في السنوات الأولى من الجامعه التي درستها في أحدى الدول العربية انه طلب منا حضور محاضرة مدعو لها وفد اكاديمي من جامعة اوروبية وعند انتهاء المحاضرة وقفت مع أحد اساتذتي نتبادل الحديث عندما حضر احد المحاضرين الأوروبيين يريد استاذي فبادله المصافحة باليد وعندما اراد مصافحتي وهو يمد يده وضعت يدي في جيوب بنطالى اعلانا مني عن عدم رغبتي في مصافحته مما سبب له ارباكا اسعدني والذهول الصامت من قبل استاذي ...
بعدما تبادل الاستاذين الحديث ورحل المتحدث الاوروبي التفت الي استاذي وقال لي : لماذا فعلت ذلك ؟ فأجبته بشفافية مطلقة : انه يا استاذي الفاضل كافر نجس !!! ولا ارغب ان اضع يدي في يده !!!
وجدت استاذي بعد ذلك مذهولا وهو ينظر الي !!! وحقيقة لقد كنت معروفا بين اقراني بانني على خلق واديب جدا وكذلك لست راعي خرابيط رغم انني كنت في دولة عربية تتمتع بمساحة كبيرة من الخربطة !!! اضافة انني كنت جيدا في تحصيلي العلمي ولم اكن مطلقا لحية واعتبر من الشباب المودرن فيما يرتديه ... خلاصة لا شيئ من سلوكي او مظهري يوحي بأنني شاب تمتلئ نفسه حقدا على غير المسلمين !!!
بادرني استاذي قائلا : حسب علمي انك كنت زيارة قبل فترة الى دولة اوروبية فكيف تصرفت ؟ قلت له ايضا بشفافية مطلقة : كنت اتجنب الاحتكاك بهم وعندما اجد نفسي بينهم كنت اضع منديلا على انفي وفمي !!! فقال لي : لماذا ؟ قلت له : لأنني أستقذرهم ...
اتذكر كيف ظل استاذي صامتا وامارات التعجب ترتسم في عينيه وفي الختام قال لي : أسمع يا ولدي أعرف انكم ايها اليمانيون متطرفون في عواطفكم فأما تمنحوا الآخرين حب جارف والا عداء سافر ... أنصحك انت الان لست باليمن فارجو منك ان تمنح نفسك فرصة لقبول الآخرين واريد ان افيدك ان هذا السلوك وهذا العداء الواضح قد يكون عاديا في بلدك ولكن في بلدي قد تتهم بأنك أرهابي !!!
استمعت الى حديث استاذي والذي شعرت فيه بصدق النصيحة فشكرته على نصيحته ثم تجاهلت هذه النصيحة على اعتبار انه يفتقد الثقة والايمان بنفسه ودينه وقضيته ثم انني حدثت نفسي : ان هذه افكار شخصية ولم اعتدي على أحد وليس من حق احد ان يفرض علي محبة الكافرين كما انه لا يحق للآخرين ان اتهم بالارهاب وانا لم ارتكب جريمة ... كلام منطقي " حدثت نفسي " وذهبت في حال سبيلي وانا سعيد بانني احرجت ذلك الاوروبي الكافر ...
في ذات يوم وانا أقرأ أحد الكتب أتيت على قصة لرسول الرحمة عليه الصلاة والسلام واعتقد انكم جميعا أخواني وأخواتي تعرفون قصته عليه الصلاة والسلام مع ذلك اليهودي الذي كان جاره ويضع له الأذى والقاذورات في الطريق ... وفي ذات يوم كان الرسول عليه الصلاة والسلام عائدا الى داره ولم يجد القاذورات في طريقه !!! فتعجب عليه الصلاة والسلام وسئل : أين اليهودي ؟؟؟ فأجابه أحد صحابته ان اليهودي مريض وهو في فراشه ... فحمل رسول الرحمة المهداة وأخذ بين يديه هديه وذهب الى بيت اليهودي الذي فاجأه هذا الفعل الرباني فما كان منه الا ان قال : أشهد ان لا اله الا الله وأشهد ان محمد رسول الله ...
وقفت طويلا امام هذه القصة حتى تسمرت !!! ورغم انني قد قرأتها مرارا وتكرارا ولكني قرأتها في ذلك اليوم وكأنني أقرأها للمرة الأولى في حياتي وسألت نفسي : أين انا من فعل رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام !!! كان بوسع الرسول صلى الله عليه وسلم ان يقتل اليهودي وهو في دولته وبين رجاله وكان بمقدوره ان يجعله يرحل وكان بمقدوره ان يفرض الاسلام عليه عنوة ومع ذلك لم يحدثه الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يجعل احد من اتباعه يتحرش به ومن هم اتباعه : انهم ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وابو عبيدة والزبير وسعد ... الخ اولئك الرجال رضوان الله عليهم والذي يشكل كل منهم دولة تسير بقدمين !!! ومع كل ذلك عندما كف اليهودي عن الأذى لمرضه ذهب اليه الرسول الكريم يزوره وهو حامل له هدية !!!
فكرت كثيرا بين قول استاذي في الثانوي وفعل أعظم رجل سار على وجه الأرض وبين قناعاتي الشخصية ... فتبين لي : انني كنت أسير جهلي وتعصبي الأعمى والغرور حد التعالي على الآخرين نعم لم يكن ذلك على المسلمين ولكن الآخرين يشاركوني الانسانية ... وهل بسلوكياتي المتطرفة تجاههم كنت سأخدم الأسلام او اعطي صورة ايجابية عن عروبتي !!! هل هم عندما يشاهدون مني تلك الجلافة والغلظه سوف يظهر لهم انهم على خطأ وبالتالي سوف يسارعون الي ان يقدمون اعتذارهم ويطلبون انظمامهم الى دين الأسلام !!! كل تلك السلوكيات المتعصبة لم تكن لتزيدهم الا نفورا ولم تكن لتزيدني الا جهالة ...
أخذت اقارن بعد ذلك بين فعل الرسول عليه الصلاة والسلام وبين استاذي في الثانوي الملتزم دينيا مع فارق المكانة والتقدير وبحثت عن نقطة الخلاف الرئيسية بينهما وتبين لي ان الفارق بينهما هو " الحـب " !!!
استاذي بالثانوية تصرف بأنانية مفرطة ولم يراعي مسؤولية الكلمة التي يطلقها امامنا وأكتفى بقناعته الشخصية ان يرسم لنا معالم شخصيتنا لسنيين قادمة ... استاذي بالثانوية علمنا ان نكره وكان حقا عليه ان يعلمنا كيف نحب ...
رسول الرحمة المهداه كان حبه قد شمل الانسان والحيوان والنبات !!! ولولا الحب العظيم في نفسه لما صبر وتحمل الأذى العظيم الذي ناله في دعوته ... كان الرسول عليه الصلاة والسلام قادر ان يدعو ربه حتى لا يبقى أحد من كفار قريش حيا على وجه الأرض ولكنه لم يفعل !!! كان الرسول عليه الصلاة والسلام قادرا ان يأمر جبريل عليه السلام ان يطبق الجبال على أهل الطائف بعدما لقى منهم ما لقى ولكنه لم يفعل !!! كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يتعرض للعدوان والتسفيه والجرائم تلو الأخرى هو واتباعه بمقدوره ان يتخذ اجراءات حاسمة وقاضيه على خصومه حتى في المعارك ومع ذلك لم يفعل !!! وعرفت لماذا لم يفعل عليه الصلاة والسلام ذلك ؟؟؟ انه الحـب الذي جعله يتحمل ما تحمل من اجل دعوة الناس الى عبادة الله وانقاذهم من الولوج في النار ... انه الحب الذي يداعب الشعور ويخاطب العقل دون أكراه او تمييز او عدوان ... انه الحب الذي لن يقبلك الاخرين الا به ... ديننا ساد العرب وساد العجم لأنه دين محبة يرتكز على العدل والمساواه ويبغض الجهل والعنصرية والغرور ...
اذا اردت ان تكون مصلحا او ان تكون داعيا او ان تجد كلماتك مكانا في نفوس الآخرين فعليك اولا ان تتعلم كيف تحبهم ...
ودمتـم فـي خيـر
منقول